فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين}.
عاد الكلام إلى ذكر النعم.
و{مَرَجَ} خَلَّى وخلط وأرسل.
قال مجاهد: أرسلهما وأفاض أحدهما في الآخر.
قال ابن عرفة: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي خلطهما فهما يلتقيان؛ يقال: مرجته إذا خلطته.
ومَرِج الدينُ والأمر اختلط واضطرب؛ ومنه قوله تعالى: {في أَمْرٍ مَّرِيج} [ق: 5].
ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمرو بن العاصي: «إذا رأيتَ الناس مَرِجت عهودهم وخفّت أماناتهم وكانوا هكذا وهكذا» وشبك بين أصابعه فقلت له: كيف أصنع عند ذلك، جعلني الله فداك! قال: «الزم بيتك واملِك عليك لسانك وخذ بما تعرِف ودع ما تنكر وعليك بخاصة أمر نفسك ودع عنك أمر العامة» خرجه النسائي وأبو داود وغيرهما.
وقال الأزهريّ: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} خلّى بينهما؛ يقال: مَرَجتُ الدابة إذا خليتها ترعى.
وقال ثعلب: المرج الإجراء؛ فقوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي أجراهما.
وقال الأخفش: يقول قوم أمرج البحرين مثل مرج فعل وأفعل بمعنًى.
{هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ} أي حلو شديد العذوبة.
{وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي فيه ملوحة ومرارة.
وروي عن طلحة أنه قرأ: {وَهَذَا مَلِحٌ} بفتح الميم وكسر اللام.
{وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} أي حاجزًا من قدرته لا يغلب أحدهما على صاحبه؛ كما قال في سورة الرحمن {مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 19 20].
{وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} أي سترًا مستورًا يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر.
فالبرزخ الحاجز، والحجر المانع.
وقال الحسن: يعني بحر فارس وبحر الروم.
قال ابن عباس وابن جبير: يعني بحر السماء وبحر الأرض.
قال ابن عباس: يلتقيان في كل عام وبينهما برزخ قضاء من قضائه.
{وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} حرامًا محرّمًا أن يعذب هذا الملح بالعذب، أو يملح هذا العذب بالملح.
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)}.
فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ الماء بَشَرًا} أي خلق من النطفة إنسانًا.
{فَجَعَلَهُ} أي جعل الإنسان {نَسَبًا وصِهْرًا}.
وقيل: {مِنَ الْمَاءِ} إشارة إلى أصل الخلقة في أن كلّ حيّ مخلوق من الماء.
وفي هذه الآية تعديد النعمة على الناس في إيجادهم بعد العدم، والتنبيه على العبرة في ذلك.
الثانية: قوله تعالى: {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} النسب والصهر معنيان يعمان كل قربى تكون بين آدمِيين.
قال ابن العربي: النسب عبارة عن خلط الماء بين الذكر والأنثى على وجه الشرع؛ فإن كان بمعصية كان خلقًا مطلقًا ولم يكن نسبًا محققًا، ولذلك لم يدخل تحت قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] بنتُه من الزنى؛ لأنها ليست ببنت له في أصح القولين لعلمائنا وأصح القولين في الدين؛ وإذا لم يكن نسب شرعًا فلا صهر شرعًا فلا يحرّم الزنى بنتَ أمّ ولا أمّ بنت، وما يحرّم من الحلال لا يحرّم من الحرام؛ لأن الله امتنّ بالنسب والصهر على عباده ورفع قدرهما، وعلّق الأحكام في الحل والحرمة عليهما فلا يلحق الباطل بهما ولا يساويهما.
قلت: اختلف الفقهاء في نكاح الرجل ابنته من زنى أو أخته أو بنت ابنه من زنى؛ فحرّم ذلك قوم منهم ابن القاسم، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وأجاز ذلك آخرون منهم عبد الملك بن الماجشون، وهو قول الشافعيّ، وقد مضى هذا في النساء مجوّدًا.
قال الفراء: النسب الذي لا يحلّ نكاحه.
وقاله الزجاج، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
واشتقاق الصّهر من صهرت الشيء إذا خلطته؛ فكل واحد من الصهرين قد خالط صاحبه، فسمّيت المناكح صهرًا لاختلاط الناس بها.
وقيل: الصهر قرابة النكاح؛ فقرابة الزوجة هم الأختان، وقرابة الزوج هم الأحْماء.
والأصهار يقع عامًا لذلك كله؛ قاله الأصمعيّ.
قال ابن الأعرابي: الأخْتَان أبو المرأة وأخوها وعمها كما قال الأصمعيّ والصهر زوج ابنة الرجل وأخوه وأبوه وعمه.
وقال محمد بن الحسن في رواية أبي سليمان الجوزجاني: أختان الرجل أزواج بناته وأخواته وعماته وخالاته، وكل ذات محرم منه، وأصهاره كل ذي رحم محرم من زوجته.
قال النحاس: الأولى في هذا أن يكون القول في الأصهار ما قال الأصمعي، وأن يكون من قبلهما جميعًا.
يقال: صهرت الشيء أي خلطته؛ فكل واحد منهما قد خلط صاحبه.
والأولى في الأختان ما قال محمد بن الحسن لجهتين: إحداهما الحديث المرفوع، روى محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيط عن محمد بن أسامة بن زيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أنت يا عليّ فختني وأبو ولدي وأنت مني وأنا منك». فهذا على أن زوج البنت خَتَن.
والجهة الأخرى أن اشتقاق الختن من ختنه إذا قطعه؛ وكأن الزوج قد انقطع عن أهله، وقطع زوجته عن أهلها.
وقال الضحاك: الصهر قرابة الرضاع.
قال ابن عطية: وذلك عندي وَهْمٌ أوجبه أن ابن عباس قال: حرم من النسب سبع، ومن الصهر خمس.
وفي رواية أخرى من الصهر سبع؛ يريد قوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخت} [النساء: 23] فهذا هو النسب.
ثم يريد بالصهر قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] إلى قوله: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين} [النساء: 23].
ثم ذكر المحصنات.
ومحمل هذا أن ابن عباس أراد حرم من الصهر ما ذكر معه، فقد أشار بما ذكر إلى عظمه وهو الصهر، لا أن الرضاع صهر، وإنما الرضاع عديل النسب يحرم منه ما يحرم من النسب بحكم الحديث المأثور فيه.
ومن روى: وحرم من الصهر خمس أسقط من الآيتين الجمع بين الأختين والمحصنات؛ وهنّ ذوات الأزواج.
قلت: فابن عطية جعل الرضاع مع ما تقدّم نسبًا، وهو قول الزجاج.
قال أبو إسحاق: النسب الذي ليس بصهر من قوله جل ثناؤه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قوله: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين} [النساء: 23] والصهر من له التزويج.
قال ابن عطية: وحكى الزهراوي قولًا أن النسب من جهة البنين والصهر من جهة البنات.
قلت: وذكر هذا القول النحاس، وقال: لأن المصاهرة من جهتين تكون.
قال ابن سيرين: نزلت هذه الآية في النبيّ صلى الله عليه وسلم وعليّ رضي الله عنه؛ لأنه جمعه معه نسب وصهر.
قال ابن عطية: فاجتماعهما وكادة حرمة إلى يوم القيامة.
{وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} على خلق ما يريده.
قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ}.
لما عدد النعم وبيّن كمال قدرته عجب من المشركين في إشراكهم به من لا يقدر على نفع ولا ضر؛ أي إن الله هو الذي خلق ما ذكره، ثم هؤلاء لجهلهم يعبدون من دونه أمواتًا جمادات لا تنفع ولا تضر.
{وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيرًا} روي عن ابن عباس {الْكَافِرُ} هنا أبو جهل؛ وشرحه أنه يستظهر بعبادة الأوثان على أوليائه.
وقال عكرمة: {الْكَافِرُ} إبليس، ظهر على عداوة ربه.
وقال مُطَرِّف: {الْكَافِرُ} هنا الشيطان.
وقال الحسن: {ظَهِيرًا} أي معينًا للشيطان على المعاصي.
وقيل: المعنى؛ وكان الكافر على ربه هينًا ذليلًا لا قدر له ولا وزن عنده؛ من قول العرب: ظهرت به أي جعلته خلف ظهرك ولم تلتفت إليه.
ومنه قوله تعالى: {واتخذتموه وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} [هود: 92] أي هينًا.
ومنه قول الفرزدق:
تميمَ بنَ قيسٍ لا تكوننّ حاجتي ** بِظَهْرٍ فلا يعيا عليّ جوابُها

هذا معنى قول أبي عبيدة.
وظهير بمعنى مظهور.
أي كفر الكافرين هين على الله تعالى، والله مستهين به لأن كفره لا يضره.
وقيل: وكان الكافر على ربه الذي يعبده وهو الصنم قويًا غالبًا يعمل به ما يشاء؛ لأن الجماد لا قدرة له على دفع ضر ونفع. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين}.
و{مرج} خلط بينهما أو أفاض أحدهما في الآخر أو أجراهما أقوال، والظاهر أنه يراد بالبحرين الماء الكثير العذب والماء الكثير الملح.
وقيل: بحران معينان.
فقيل: بحر فارس، وبحر الروم.
وقيل: بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان في كل عام قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: مياه الأنهار الواقعة في البحر الأجاج وهذا قريب من القول الأول.
قال ابن عطية: والمقصد بالآية التنبيه على قدرة الله وإتقان خلقه للأشياء في أن بث في الأرض مياهًا عذبة كثيرة من الأنهار والعيون والآبار وجعلها خلال الأجاج، وجعل الأجاج خلالها فترى البحر قد اكتنفته المياه العذبة في ضفتيه ويلقى الماء البحر في الجزائر ونحوها قد اكتنفه الماء الأجاج، والبرزخ والحجر ما حجز بينهما من الأرض والسد قاله الحسن.
ويتمشى هذا على قول من قال أن {مرج} بمعنى أجرى.
وقيل: البرزخ البلاد والقفار فلا يختلفان إلاّ بزوال الحاجز يوم القيامة.
قال الأكثرون: الحاجز مانع من قدرة الله.
قال الزجاج: فهما مختلطان في مرائي العين منفصلان بقدرة الله، وسواد البصرة ينحدر الماء العذب منه في دجلة نحو البحر، ويأتي المد من البحر فيلتقيان من غير اختلاط فماء البحر إلى الخضرة الشديدة، وماء دجلة إلى الحمرة، فالمستقي يغرف من ماء دجلة عندنا لا يخالطه شيء ونيل مصر في فيضه يشق البحر المالح شقًا بحيث يبقى نهرًا جاريًا أحمر في وسط المالح ليستقي الناس منه، وترى المياه قطعًا في وسط البحر المالح فيقولون: هذا ماء ثلج فيسقون منه من وسط البحر.
وقرأ طلحة وقتيبة عن الكسائي {ملح} بفتح الميم وكسر اللام وكذا في فاطر.
قال أبو حاتم وهذا منكر في القراءة.